بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة على اشرف خلق الله سيدنا محمد علية افضل الصلاة وأجل التسليم، أما بعد،،،
سؤلت في مؤتمر الاصلاح العربي الاخير الذي اقيم في مكتبة الاسكندرية في مارس الماضي عن الازمة واسبابها من خلال الندوة التي شاركت فيها مع د.عبدالعزيز حجازي رئيس وزراء مصر الاسبق ود.بشرى الهلالي استاذة ادارة الاعمال في جامعة عمر المختار في ليبيا وكانت اجاباتي على التساؤلات بالاتي:
ماهي الاسباب المؤدية للأزمة المالية العالمية المعاصرة ؟
كلنا تابعنا من خلال وسائل الاعلام ماحدث في الولايات المتحدة الأمركية بما يعرف بأزمة الإئتمان والرهن العقاري وهذه الاسباب العلنيه للأزمة، ولكن في وجهة نظري أن هناك أسباب جوهرية وتراكمات سابقة أدت إلى هذه الازمة، وبإعتقادي أن هذه الأسباب تنقسم الى نوعين:
الأول: اسباب موضوعية " اي اقتصادية"، ومن ابرزها:
· عدم الكفاءة الادارية للحكومات والشركات والمؤسسات.
· الضعف الشديد في النظم المحاسبية والرقابية والتنظيمية.
· التحرر المالي الغير وقائي.
· عدم الإهتمام بإنشاء مراكز وهيئات قريبة من متخذي القرار متخصصة في إدارة الأزمات.
· تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي الكلي، ونتيجة لهذا التحجيم تمخضت عدة سلبيات عانت منها المنظومة الاقتصادية ، كان أبرزها: الفساد الأخلاقي الاقتصادي، والطغيان بحيث اصبحت المادة والربح هما الهدف ويأتي على حساب الجودة، التوسع في تطبيق نظام السحب على المكشوف مما رتب التزامات تفوق القدرة المالية للمستهلكين.
· عدم تلائم اصول خصوم المصاريف، بحيث ارتفعت نسبة الاقتراض لتمثل 60:1.
· اتساع الفجوة بين الاستثمار والادخار.
· المبالغة في عمليات الاقراض.
· الجشع greed، فمزيد من الإقراض والاقتراض يعني مزيدًا من الأرباح، أما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الإقراض فهي لا تهم مجالس الإدارات في معظم البنوك والشركات التمويلية، والتي تهتم فقط بالأرباح قصيرة الأجل؛ حيث يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها ومكافآت مالية سخية لرؤساء البنوك، وهكذا أدَّى الاهتمام بالربح في المدة القصيرة إلى تعريض النظام المالي للمخاطر في المدة الطويلة. ولكن التوسع في الإقراض لا يرجع فقط إلى تجاهل اعتبارات الحدود للرافعة المالية لكل مؤسسة، بل إن النظام المالي في الدول الصناعية قد اكتشف وسيلة جديدة لزيادة حجم الإقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات المالية financial derivatives، وهو اختراع يمكن عن طريقه توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناءً على أصلٍ واحد .
· نقص أو انعدام الرقابة أو الإشراف الكافي على المؤسسات المالية الوسيطة، فلم تخضع البنوك التجارية في معظم الدول لرقابة دقيقة من البنوك المركزية، ولكن هذه الرقابة تضعف أو حتى تنعدم بالنسبة لمؤسسات مالية أخرى مثل بنوك الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية أو الرقابة على المنتجات المالية الجديدة مثل المشتقات المالية أو الرقابة على الهيئات المالية التي تصدر شهادات الجدارة الائتمانية، وبالتالي تُشجِّع المستثمرين على الإقبال على الأوراق المالية.
الثاني: اما ما يتعلق بالنوع الثاني من الأسباب فهي أسباب شرعية، تخالف الشريعة الاسلامية، ابرزها:
· الربا: وهو محرم بقول الله تعالى "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أمولكم لا تظلمون ولا تظلمون"{البقرة:279}، ويعتبر الربا عنصر محفز خفي على التضخم، وقد نبه إقتصاديون غربيون كبار لهذا الأثر الخطير لكن جشع المؤسسات والأفراد أعمى بصيرتهم بتفضيل المصلحة الفردية بصورة مطلقة على المصلحة الجماعية، فمنذ عقدين من الزمن تطرق الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد " مويس آلي" إلى أن هناك أزمة هيكلية سيشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة "اللبرالية المتوحشة اقتصاديا" معتبرا ان الوضع على حافة البركان، ومهدد تحت وطأة الأزمة ومضاعفة المديونيات والبطالة، واقترح البروفسور "مويس آلي" للخروج من الأزمة وإعدة التوازن شرطين، هما:
الأول/ تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر.
الثاني/ مراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2% .
وهذا ما يتطابق مع إلغاء الربا وتثبيت نسبة الزكاة في النظام الاقتصادي الاسلامي.
· إن من أسباب الأزمة هو عدم الرفق في وضع هامش للربح.
· جدولة الديون بسعر أعلى أو إستبدال قرض واجب السداد بقرض جديد بسعر فائدة أعلى.
· نظام الفائدة أخذا وعطاءا، وهو مايعرف بتجارة الديون.
· المعاملات الوهمية، وهي احد انواع البيوع المنهي عنها.
لقد تكاتفت تلك الأسباب على خلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها على التأثير على القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في الأصول المالية، بل إنه هدد أحد أهم عناصر هذا القطاع وهو "الثقة"، فرغم أن الاسباب المشار إليها كافية لإحداث أزمة عميقة، فإن الأمور تصبح أكثر خطورةً إذا فقدت الثقة أو ضعفت في النظام المالي الذي يقوم على ثقة الأفراد، ويزداد الأمر تعقيدًا نتيجة للتداخل بين المؤسسات المالية في مختلف الدول، فجميع المؤسسات المالية "وبلا استثناء" تتعامل مع بعضها البعض، وأي مشكلة مستعصية تصيب إحدى هذه المؤسسات، لا بد أن تنعكس بشكلٍ مضاعف على بقية النظام المالي العالمي وهذا مايعرف بـ "العولمة".
وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في القطاع المالي في الولايات المتحدة، ومن ورائه في بقية دول العالم المتقدم، والسؤال: هل يمكن التجاوز عن هذا الاقتصاد المالي بأدواته المتعددة ومؤسساته الكثيرة؟ للأسف لا يمكن.
فالأصول المالية أصبحت مثل الدورة الدموية في الجسم، فلا يكفي أن يكون في جسم الإنسان أعضاء رئيسية مثل القلب والمعدة والرئتين، بل لا بد من دورة دموية تنقل الغذاء وتطلق الحركة في جسم الإنسان، وهكذا أصبح الاقتصاد لا يكتفي بالمصانع والأراضي الزراعية، بل إن ما يحركها هو أصول مالية مثل الأسهم والسندات والنقود، وهناك الادخار والاستثمار الذي يتحقق من خلال أدوات مالية؛ ولذلك فإن علاجَ الأزمة المالية ضروري ولا يمكن تجاهله.
هذا بالنسبة للشق الأول من السؤال، أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال والمتعلق بالفترة الزمنية التي ستستمر فيها الازمة، من خلال الإطلاع ورصد الاوضاع الاقتصادية العالمية في هذه المرحلة وجدت أن اكثر المتفائلين وهو البروفسور الحائز عل جائزة نوبل للاقتصاد "جوزيف استجلتز" فهو يقدر استمرار هذه الأزمة وتداعياتها لخمس سنوات، وانا أوافق رأي البروفسور "استجلتز" وفي رأي الشخصي ان مايحدث في الوقت الحالي هو مجموعة من المقدمات فالأزمة لم تضرب بعد فجميع المؤشرات تقول أن القادم أعنف وأخطر بكثير.
ماهي حلول الأزمة الاقتصادية بالعالم؟
تعتبر هذه الأزمة وبوصف العديد من خبراء الاقتصاد العالميين أنها أشد الأزمات الاقتصادية التي مرت على تاريخ البشرية بل أن (على حد وصفهم) أزمة الكساد الكبير عام 1929 تعتبر بمثابة النزهة مقارنة بالأزمة الحالية، لقد جربنا في العصر الحديث وتحديدا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى نوعين من النظم الإقتصادية وهما النموذج الاشتراكي والنموذج الرأسمالي، وكلاهما فشلا في ادارة الاقتصاد الدولي، فالاشتراكية سقطت وانتهت مع تفكك الاتحاد السوفيتي والرأسمالية ها هي تنهار أمام أعيننا نتيجة الممارسات الخاطأة والجشع الانساني الذي ولدته في نفوس البشرية، والآن بدأت أصوات تنادي بالدمج بين هذين النموذجين والخروج بنموذج يجمع بين مميزاتهما يصلح للتعميم والعمل به، ولكن من وجهة نظري سيفشل هذا المشروع بكل تأكيد لأن الله عز وجل يقول في كتابة الكريم " فإما يأتينكم مني هدى فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" {طه:123/124}، فالحل يكمن في تطبيق أدوات منهج الإقتصاد الإسلامي ، وتتميز شريعة الإسلام بضوابطها التي تسري على الجميع دون استثناء حكامًا ومحكومين أفرادًا وجماعات. فيها الثابت وفيها المتغير، فالثابت هو منطقة محددة لا مجال فيها للاجتهاد، فيها النصوص محكمة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ولا مجال فيها للاجتهاد وهي منطقة صغيرة لكنها مهمة جدا تمثل الثوابت الفكرية والشعورية والعملية للأمة وتجعل منها أمة واحدة في الاتجاه والغاية والفكرة.وكمثال عن الثوابت، فإن الاحتكار أمر مباح في الاقتصاد الرأسمالي، لكننا لازلنا نذكر دعوى الحكومة الأمريكية ضد شركة مايكروسوفت لتقسيمها بحجة قانون الاحتكار، فلولا أن الأمر قد طال رقبتها لما شهرت هذا القانون، وهذا نتيجة "البرغماتية" أي" المصالح" التي يعيشون بها. أما في الاقتصاد الإسلامي فالاحتكار محرم لأنه من الثوابت التي تسري على الجميع. أما المتغيرات فغير محدودة إنما تضبطها الثوابت العامة. ومنطقة المتغيرات تعطي سعة ومرونة للشريعة الإسلامية للتكيف مع الوقائع والعصور والبيئات المختلفة، فهي لم تحجر دائرة الابتكار، وإنما على العكس حجرت دائرة الممنوع وأبقت دائرة المشروع متاحة للجهد البشري في الابتكار والتجديد.
وأيضا، حث الاقتصاد الإسلامي على تحجيم الدين بين الناس وتوسعته مع المحتاجين بضوابط وكأنه يسعى لضبط السوق مانعًا إياه من الوقوع بمخاطر وأزمات، أما الاقتصاد التقليدي فحث على التوسع بالدين بلا ضوابط بل وبقوى دافعة إليه مهيئًا كل السبل كالبطاقات الائتمانية والتسهيلات الائتمانية والتلاعب بالرهن، وبيع الدين وما إلى ذلك من ممارسات ينهى عنها الشرع الإسلامي.
ونضيف، الاقتصاد الإسلامي أوجد حلا مستدامًا لتمويل خطر الائتمان العام فأوجب سهمًا للغارمين منعًا لأي أزمة ائتمانية تؤدي لسقوطه، أما الاقتصاد التقليدي فارتأى الحل كاستثناء عند وقوع الأزمات . لذلك ينتهج الاقتصاد الإسلامي حلولا دائمة طويل الأمد، بينما ينتهج الاقتصاد التقليدي حلولا علاجية استثنائية وكأنه يتعلم بالممارسة.
لقد سعى الاقتصاد الإسلامي بحلة من الأسفل إلى الأعلى بمساعدة المدين الأصلي مباشرة وهو الطرف الضعيف لسداد دينه تجاه دائنه، أما الاقتصاد التقليدي فقد قدم مساعداته للقوي الذي ارتكب الخطأ أي انتهج حلا يتجه من الأعلى إلى الأسفل، فأفاده مرتين الأولى عندما تركه يعبث إفسادًا بالربا والثانية بضخ الأموال له كي لا يقع مفلسًا، بل وألحقه بقانون خاص للإفلاس لحمايته. والميل للضعيف هي فلسفة يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي في أغلب الحالات. لذلك فإن ضخ الأموال في السوق يجب أن يوجه للمدينين الآخيرين للوفاء بديونهم أسوة بفعل الخليفة العادل "عمر بن عبدالعزيز" فكان لا يبيع خادم الرجل ولا مسكنه في الدين لأن الشرع ضمن لكل فرد حصانة تستر كرامته الإنسانية. لقد شددت الشريعة الغراء على عدم إتباع سياسة القطيع في السوق بإتباع سلوك الشركات القائدة. فعن عبدالله بن مسعود، أنه كان يقول" اغد عالمًا أو متعلمًا ولا تغدون إمعًة فيما بين ذلك "، والإمعة هو الأحمق الذي لا يثبت على رأي. ويعزا جزء كبير من الأزمات المالية إلى تقليد الآخرين عن غير علم ولا هدى. لذلك لابد لكل مستثمر في السوق أن يكون على علم وثقافة أسوة بقول عمر رضي الله عنه " لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى"، ويلاحظ أن الأمر موجه إلى البائع لأنه أساس السوق فإن انتظم عمله انضبط السوق بمن فيه.
إن عودة فقه المعاملات وهو الجزء التطبيقي للإسلام إلى الحياة من جديد بثوب اسمه الاقتصاد الإسلامي وتقديمه للكثير من الحلول الناجعة لأزمات العالم، إنما هو برهان على أن هذا الدين هو دين حياة يصلح للناس كافة، وهذا ما أنبأ به الله عز وجل بقوله " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون" { سبأ: 28}، إن بشارات الإعجاز في الاقتصادي الإسلامي تتوالى، ولابد أن يراها الجميع خفاقة، فعندما كان العرب أفصح الناس وأشعرهم أعجزهم كلام الله تعالى، وعندما صار العلم بأدواته واختراعاته نبراسًا مضيئًا تتالت إعجازات القرآن الكريم والسنة الشريفة تترى، ولما صار الاقتصاد في هذه الأيام ذو صولة وجولة فلابد من بروز الإعجاز الاقتصادي لهذا الدين العظيم ومن ظهوره.
فقد تساءل "بوفيس فانسون" رئيس تحرير مجلة "شالونج" في افتتاحيتها مخاطبًا "البابا بنديكيت السادس عشر" قائلا: أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بد لا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود".
وأخيرا، إذا كانت الأنظمة الوضعية راغبة عن الحلِّ الإسلامي لهذه المشكلة فلتطبق ما بدا لها، وما أظن حلا من الحلول الوضعية نافعًا، والواقع من أصدق الشاهدين على ما أقول. ومن أراد أن يجرب فليفعل، فالتجربة خير برهان، ولكن علينا الصبر والانتظار سنين بل عقودًا لتقييم نجاح أي تجربة أو فشلها، وبإختصار أجد الحل لهذه الأزمة في تطبيق مبادئ وأدوات الاقتصاد الإسلامي.